ملجئي هنا..وهناك!
مضى ما يقارب التسعة أشهر وأنا في النروج. تركت بيروت في آب عام ٢٠١٨ وقبل أسبوع من سفري تسلّمت شهادة تخرجي من مدرسة العمل للأمل للموسيقى. كان علينا أن نرحل وأن نتوجه الى بلاد أخرى لنكمل تعليمنا أختي وأنا ولنحصل على إقامات شرعية. بدا صعباً في الآونة الأخيرة أن أكمل تعليمي المدرسي في لبنان، كذلك واجهت أختي عقبات حالت دون إكمالها دراستها الجامعية. لذا ذهبنا الى النروج.
قبل نهارِ من سفري، كان لدينا حفلة ضمن جولة نظمتها مبادرة العمل للأمل في صيدا وصور وطرابلس وعكار وكنت جزءاً من فرقة زهورات الموسيقية. حجم الجولة ضخم: قمنا بخمسة حفلات في عدة مناطق لبنانية وكانت الفرق تتبادل الجولات والحفلات. فرقتان تعزفان في صيدا بينما نحن نعزف في مكان آخر ثم نذهب نحن الى صيدا وهكذا دواليك. حين أعزف وأرى ردة فعل الجمهور، أرتاح وأطمئن. على الرغم أننا هربنا من الحرب وأننا كنا نعيش بعيداً عن بيوتنا الا أننا تمكنّا من زرع الفرح في عيون وقلوب من عزفنا لهم وأحياناً عند انتهاء الحفلة، كانوا يقدمون لنا الورود. مهما كانت تلك الفرحة صغيرة، هي ثمينة جداً لي. خاصةً وأنه بعد الحفلات التي كنا نقيمها كان هنالك أطفال وشابات من عمرنا يعربون عن رغبتهم في تعلّم الآلات التي كنا نعزفها. تشعرين أنك أصبحت قدوة لهم. اختبرت ذلك في مخيم شاتيلا حيث كنت أقطن.
وللحفلات التي تمّ تنظيمها مردود مادي. هذا الأمر جعلني فخورة بنفسي. فأنا لم أكن قد تجاورت الخامسة عشر وكنت أقبض نفس المبلغ الذي قبضه والدي ووالدتي أثناء عملهما كمتطوعين في إحدى المنظمات الدولية. أصبحت منتجة، مثلي مثل والدي ووالدتي. كثيرون من أصدقائي وجدوا في هذا المبلغ سنداً لهم بالإضافة الى مساهمة مادية كنا نقبضها خلال فترة التمارين. بعضهم اشترى ثياباً والبعض الآخر اشترى أموراً يحبها. من ناحيتي، أعطيت الجزء الأكبر من المبلغ لأهلي والباقي اشتريت به أكسسوارات بسيطة.
منذ صغري وأنا أرى أن انتمائي للموسيقى كبيرٌ جداً. حين كنت أتعلم في مدرسة نجدة ناو في شاتيلا طلبت مني إحدى المعلمات أن أقدم لبرنامج الموسيقى في العمل للأمل بعد أن لاحظت شغفي بالموسيقى. مؤسسة العمل للأمل متنت هذا الإنتماء وأعطتني ثقة كبيرة بنفسي: العزف على خشبة مسرح أمرٌ ليس بهذه السهولة كما أنني تعرفت على رفاق من غير بيئتي. أًصبح لي أصدقاء وأساتذة فلسطينيين ولبنانيين. وسوريين من مناطق داخل سوريا لم أكن أعرفها. تمت عملية التأقلم بسلاسة وبنيت رابطاً معهم قوي جداً. أحدثهم من النروج تقريباً كل يوم وأرسل تسجيلات لعزفي الى أساتذتي وأطلب نصائحهم.
في النروج، زاد اصراري على العزف: نحن في زمن تتوفر فيه سبل التعلّم عبر الإنترنت ومن يريد أن يتعلم يتعلم بشتى الطرق. لذلك، أصر أن أتواصل مع أساتذتي القدامى كما أحاول أن أتواصل مع أساتذة هنا كي أحسّن عزفي على البزق.
كان من المفترض، في نيسان، أن يتم تنظيم حفلة في النروج تجمع بين فرقة نرويجية وعازفي العمل للأمل. للأسف لم يتمكن أًصدقائي من المجيء بسبب عدم حصولهم على تأشيرات وبسبب تعقيدات الإقامة في لبنان. لذا أتت أستاذتي فرح وقمت معها بالعزف مع تلك الفرقة.
الحفلة كانت رائعة بكل ما للكلمة من معنى. تمكنا من التواصل مع النروجيين وكان هنالك تناغم فيما بيننا. أنا مرتاحة مادياً ومعنوياً واجتماعياً هنا ولكن على الصعيد النفسي أفتقد كثيراً للصداقات وللعلاقات التي بنيتها في العمل للأمل. قضيت الكثير من الوقت الممتع هناك. أكثر ما أذكره هو الجولة التي تمّ تنظيمها. كان هنالك عيد وكان برنامجنا مكثفاً بين التمارين والحفلات. رغم ذلك، تمكننا من قضاء وقتاً ترفيهياً جميلاً لن أنساه ولربما تلك الذكريات هي التي سأحفظها معي من بقائي في لبنان. أذكر كيف سبحنا في صيدا وصور مع الإساتذة وكيف لعبنا بالكرة…كان أساتذتنا يتعاملون معنا كأصدقاء. أتمنى أن أستطيع أن أرى أصدقائي مجدداً وكل ما آمله هو أن أكمل مسيرتي في الموسيقى.
أينما أذهب الآن آخذ آلة البزق معي. هي أكثر من يرافقني في يومياتي: الموسيقى هي ملجئي الوحيد. عندما أكون حزينة أعزف وعندما أكون سعيدة أعزف.
في آب المقبل، سأبلغ السادسة عشر.
صاحب الحكاية: مهى فتوح
الممارسة الفنية: بزق
جمع وتحرير: منى مرعي
الزمان والمكان: ٣١ أيار ٢٠١٩ / سكايب