أن نرى أنفسنا بنفس الطريقة على التلفزيون

بعد أن درست التحريك في إسبانيا عدت الى بيروت وعملت في مشاريع تصوير عديدة لدعايات ووثائٍقيات وبرامج تلفزيون كسائر الأصدقاء الذين دخلوا في مجال السينما والدراسات السمعية البصرية. ثم انضممت الى برنامج السينما في العمل للأمل وأصبحت أستاذة هناك.

في العمل للأمل، نعطي كأساتذة دروساً في كل شيء. ويمتد البرنامج على مدى تسعة أشهر مكثفة نقدّم فيها للطلاب الأساسيات التقنية والفكرية حيث يتعلمون كيفية كتابة السيناريو والأطر الإبداعية التي ترتبط بصناعة الفيلم ثم يتاح لهم تعلم كيفية القيام بفيلم وثائقي وبفيلم روائي. تترافق كل تلك المراحل بتجارب تطبيقية فيصورون بعض الأفلام وصولاً الى فيلم التخرج.

سنتي الأولى داخل العمل للأمل كانت صعبة. أنا آتية من جونيه وكنت مسافرة وعلي أن أتوجه لأفراد عانوا الأمريّن، يأتون من خلفية قاسية وصعبة وفي نفس الوقت هم حساسون جداً. استغرق الأمر بعض الوقت كي أجد الطريقة الأمثل للتعاطي مع هذا الإختلاف. وكان من المهم جداً أن يستردوا ثقتهم بنفسهم لأنه في البداية وفي العام الأول تحديداً كانت ثقتهم بأنفسهم معدومة. حاولنا أن ندفعهم الى الأمام. وجدوا في البداية صعوبة في التعبير عن أنفسهم، كان هنالك خوفٌ كبير من فكرة التعبير بحد ذاتها ومن الإحكام المسبقة. في البدء، لم يكن أحدُ من الطلاب متمكناً من الحديث عن نفسه وعن تجاربه الذاتية. أن يخرجوا بأفكار طالعة من صلب كينونتهم كان أمراً فائقاً في صعوبته وكلما أتوا للحديث عن أنفسهم كانوا يبكون. شيئاً فشيئاً بدأت تتفكك تلك الحصون المنيعة وأصبح لديهم، مع الوقت، ثقة بالنفس قوية جداً.

من اللحظات التي سأذكرها دائماً ما حصل في أحد الصفوف حيث تمّ التركيز خلال الحصة على كيفية بناء قصة تنطلق من ذكرى معينة وكيف يتمّ تطويرها لتصبح سيناريو. طلبت منهم أن ينطلقوا من ذاكرتهم لبناء قصة معاكسة لما حدث في الواقع. كان هنالك فتاة انضمت الى مدرسة السينما هي وأختها. وبدأت الفتاة تحكي حكاية والدها الذي تمّ إيقافه على الحدود ولم يعرف عنه شيئاً بعد هذا اليوم وفجأة بكت الفتاة وأختها وبكى كل من في الصف. بكيت معهم، أحسست بهشاشتهم وهشاشتي. تلك الهشاشة ممزوجة بقوة استثنائية يملكها كل من هؤلاء الطلاب. بالرغم من كل ما مروا به من ظروف صعبة ولا إنسانية، تمكنوا بشكل ما أن يتخطوا تلك المواقف وأن يكملوا حياتهم حاملين معهم كل الإنكسارات التي عايشوها في سن صغيرة جداً.

تلك الفتاة في فيلم تخرجها لجأت الى تجسيد ما مرت به عبر فيلم قصير روائي واختارت أن تغير وقائع الحكاية فأبقت على والدها معها وكان ممسكاً يدها طوال الوقت حتى، في نهاية الفيلم ظهرت رصاصة طائشة دون أن يدرك المشاهد من طالت هذه الرصاصة. كثير من الطلاب يلجؤون الى الفيلم الروائي وهذه مفارقة تناقض توجه عدد كبير من المخرجين المحترفين نحو الفيلم الوثائقي. الفيلم الروائي هو نافذة لهؤلاء الطلاب للهروب من الواقع أو لتشكيله كما يريدون. يقولون دائماً “أننا سئمنا أن نرى أنفسنا بنفس الطريقة على التلفزيون”.

“بث مباشر” هو فيلم قصير آخر استوقفني وهو ينقل لنا طفل وعائلته يحضرون مباراة كرة قدم بين الأرجنتين وألمانيا في المونديال خلال أمسية من القصف المتقطع في سوريا. تمّ عرض هذا الفيلم في إحدى المهرجانات في بيروت، وأصيب من كان حاضراً بالدهشة (ومنهم أسماء مكرسة كجوليا قصار وموريال أبو الروس) على قدرة هذا الفيلم على التأثير بالمشاهد من خلال الكوميديا.

مضى ثلاث سنوات وأنا أعمل مع العمل للأمل. أرى أنني تحولت، نضحت أكثر بسبب هذه التجربة . نضجت بسبب تفاعلي مع هؤلاء الطلاب وتدهشني دائماً قدرتهم على تحويل الأمور البسيطة جداً الى أمور عظيمة.. مع الوقت أصبحت كثيرة التعلق بعملي وأيام الجمعة والآحاد مكرّسة دائماً للبقاع. أقوم بذلك الأمر بكل سعادة ومتعة لأنني أقدم للناس أداة هم بحاجة لها وفي نفس الوقت أنا أستمدّ منهم طاقة وحيوية. بات الطلاب أصدقاءً لي ولا يحدث فارق العمر شيئاً لأنهم يملكون نضوجاً وتحملوا مسؤوليات فاقت سنهم. الفتاة التي أخرجت بث مباشر تعيش الآن في كندا ونحن على تواصلٍ دائم. تعلمت منهم أن أحب الأمور البسيطة وأن أكون أكثر تواضعاً. باتت قدماي تلامس أرض الواقع أكثر. والتفاعل الدائم معهم زادني إنسانية.

صاحب الحكاية: ساندرا بطرس
الممارسة الفنية: أستاذة سينما
جمع وتحرير: منى مرعي
الزمان والمكان: ١ حزيران ٢٠١٩، الحمرا – بيروت